الجمعة، 28 ديسمبر 2012

عــزلـة الـمـبـدع الـســودانـي



آراء ثمانية مبدعين ومثقفين من الداخل والخارج
تحقيق: رانيـا مأمـون
المبدع السّوداني بعيد عن الإعلام العربي وغريب عنه وفيه. معظم القرّاء العرب لا يعرفون من المبدعين السّودانيين سوى الطيِّب صالح، وأحياناً لا يعرفون أحداً. قال لي أحد الأصدقاء العراقيين إنه لم يعرف أن في السودان أدباً، وإنّما حروب وإعانات وإغاثات فقط. كان هذا أحد دوافع إجرائي هذا التحقيق عن عزلة المبدع السوداني.
محاوري - التي توجهّتُ بها إلى المبدعين داخل وخارج السودان - كانت عن أسباب غياب المبدع السوداني على خارطة الإعلام العربي وبعده عن القارئ أو المتلقي العربي. وبما أن النت تشكِّل عنصرا مهماً في كسر هذه العزلة، كانت هي أيضا أحد المحاور في التحقيق: هل استطاعت الإنترنت أن تغيِّر من هذا الواقع؟ هل أضافت للأدب السوداني؟ أم أنّها أضافت همّاً جديداً في عدم استطاعة المبدع السّوداني اختراق العالم الخارجي وحصر نفسه في المواقع السودانية؟ ولمَ لا نجد إلا أسماءً سودانية محدودة ومكررة في المواقع العربية؟
تباينت الآراء واختلفت. منهم من رأى أن السبب يرجع إلى المبدع نفسه، والصفات الأنثربولوجية التي تحكم هذا المبدع السوداني، وتأثير الإثنية والهوية المزعزعة. وأرجع البعض السبب إلى عدم تبني المؤسسة الرسمية للإبداع والمبدعين. ورأى بعض آخر أن الكسل هو أُس القضية.

يشارك في هذا التحقيق الشاعر محمد المكي إبراهيم، والروائي أحمد الملك، والناقدة نجاة محمود، والكاتب عبد الهادي عبد الله عدلان، والقاص خالد ربيع السيِّد، والشّاعر مأمون التِّلب، والصحافي موسى حامد، والشاعر جمال محمد إبراهيم.
*****
الشاعر محمد المكي إبراهيم: فقدنا الديموقراطية
هذا سؤال محدد وهو بذلك سؤال ممتاز. وبحديثه عن المبدع والإبداع السوداني يحصر نطاقه في قبيلة منتجي الفنون من تشكيليين وموسيقيين وشعراء وروائيين وكتاب قصة قصيرة، وبالتالي فهو لا يشمل الصحفيين والإداريين والمصممين والمترجمين، وهؤلاء المستبعدون عن نطاق الحديث استطاعوا أن يحققوا اختراقا كبيرا لجدار العزلة لم يتحقق لرصفائهم من قبيلة الإبداع. كيف يخترق المبدع جدار العزلة؟ ببساطة يكون ذلك بنشر إنتاجه من المنابر موضوع الحديث. واعتقادي أن تلك المنابر لم تقل "لا" لإبداع السودانيين، فقد صدرت روايات ودواوين لسودانيين من دور نشر عربية، وعرض بعض التشكيليين لوحاتهم في بيروت والقاهرة. وإذا لم يجدوا الرّواج ولم يملئوا أعمدة الصحف، فذلك لطبيعة إنتاجهم في المقام الأول، ولعوامل أخرى لا تتعلق بطبيعة ذلك الإنتاج، وهي عوامل يمكن تقسيمها إلى قسمين:
عوامل دائمة التأثير وعوامل موقوتة. ربما كان أوضح العوامل الموقوتة هو تدني المكانة الدولية لبلادنا، فقد فقدنا الديموقراطية التي كانت تضعنا في مكانة عالية فوق محكومي الأنظمة الشمولية عربا أو أفارقة، وتجعل العالم يصغي إلينا كأبناء أمة متميزة. وبعد تدويل قضية الجنوب وبروز قضية دارفور أصبحنا صغارا بنظر العالم بما فيه العالم العربي، ولم يَعُد أحد يطلب منا معرفة أو هداية باعتبارنا أمة ممحوة عاجزة عن حل مشاكلها، لكي لا نتحدث عن عجزنا عن إطعام أنفسنا وإضاءة بيوتنا.
العوامل الدائمة هي العامل الاقتصادي والعامل النفسي، وهي عوامل ممتدة التأثير، وسوف تظل تحكم علاقة الكاتب السوداني بالمنابر العربية إلى زمنٍ طويل. ففي الناحية الاقتصادية هنالك مبدأ المكافأة المعمول به في الإصدارات العربية وخاصة الخليجية منها، وتسيطر على النشر فيها مجموعات من الكتاب المغتربين الذين يميلون للاحتفاظ بتلك المكافآت لأصدقائهم ومواطنيهم، ويتم ذلك عادة على حساب الكاتب السوداني بوصفه كماً مجهولا وغير قادر على الاحتجاج. وحتى بعد النشر يتحايل الإداريون لحرمان الكاتب السوداني من مكافأته لنفس الأسباب. ولا شكّ أن المعنيين يبررون لأنفسهم ذلك التصرف بأن السوداني طيب ومتسامح ولا يقاتل من أجل النقود، وهم - ولو جزئيا - على حق، ففي تجربتي الشخصية "أكلتني" صحف ومجلات عربية وجدت من غير اللائق أن ألح عليها بالملاحقة والإلحاف.
العامل الآخر هو عدم وجود إعلام سوداني يرشد الخارج إلى إبداعنا المحلي، فطوال متابعتي لوكالة أنباء السودان لم اقف على خبر عن مبدع أو مناسبة من مناسبات الإبداع. أما قناتنا الفضائية فهي حسب النكتة العربية لا تُستخدم إلا في معاقبة الأزواج الذين يتأخرون في العودة إلى البيت. وبالمثل فان صحافتنا محبوسة داخل حدودنا. وأضف إلى ذلك فشلها في تبني خط غير الخط الحكومي، مما افقدها اهتمام المشتغلين بالثقافة بين العرب وجُلّهم من أنصار الديموقراطية ودعاة التغيير.
من الناحية النفسية هنالك إحساس عربي بأننا قد تعربنا ليلة البارحة وأخذنا اللغة العربية "من عندنا" هنا في القاهرة أو بغداد. ولا يتوقع القارئ العربي أن يجد لدينا لغة سليمة أو إبداعا جديرا. وقد فعل الطيب صالح وسعه وفوق وسعه لتبديد تلك الرؤية الخاطئة. ولو نبغ فينا مثله لصلح الحال بعض الشئ.
ماذا عن الإنترنت؟ لقد أفادت كثيرا كأداة للتواصل، ولكن نحن أنفسنا لم ننجح في خلق منابرنا عليها. ومع نجاح العديد من تلك المنابر، إلا أن الطابع المحلي هو لونها الصارخ. وظني أن سودانايل كانت في بداية أمرها الانجح بين تلك المواقع، ولكن هنالك هجمة عليها من الكتاب بدأت تحولها إلى الطابع المحلي. ثم هنالك المحاولة الخطيرة للدكتور عبد الله بولا ورفاقه في موقع سودان فور أول (السودان للجميع)، ويلمح المرء من تبويبها الممتاز أنها ارفع مستوى من محتواها، فللأسف انتقل إليها الطابع المحلي في مواضيع الكتابة والنقاش، كما خلت من محاولات التعريف بالمبدعين والآثار الإبداعية السودانية لتؤدي دور المصباح الكاشف في التعريف بالثقافة السودانية.
كلمة أخيرة : الكثير منا يتتلمذ على الأدباء العرب ولا يقرأ سواهم، وعلى ذلك فانه يرد إليهم بضاعتهم في هيئة اكثر قصورا. وقد طالبت كثيراً بالاطلاع على الأدب العالمي وتقديمه للجمهور العربي مثلما يفعل الشوام والمصريون. ولكي يحدث ذلك لا بُدّ لنا من العودة إلى التفوق في اللغات الأجنبية وإتقان النقل والترجمة عنها، وذلك ما سعت في عكسه دولتنا هداها الله.

الروائي أحمد الملك: صناعة الكتاب لا تجد الدعم
ربما الحديث عن ضعف مؤسسات النشر أو المؤسسات الحكومية التي تدعم الكتاب والكاتب هو حديث مكرر، لكن مؤكد أنه يبقى أساس الأزمة. لم توجد تقريبا مؤسسات تنشر الكتاب في بلادنا وترعاه وتوزعه بصورة جيدة في الدول العربية، أو تشارك به في معارض الكتاب. وكل الجهود التي بذلت في هذا المجال جهود فردية لم تتوفر لها فرص الانتظام.
صناعة الكتاب نفسها في بلادنا لم تجد الحد الأدنى من دعم الدولة، وهي إعفاء مدخلات الطباعة من الجمارك والرسوم العالية، وإعفاء الكتاب المطبوع في الخارج من الرسوم. ازدهار الكتاب من فترات طويلة في دول مثل مصر أو سوريا أو لبنان لرخص مدخلات الطباعة دور كبير في ذلك، وبالتالي تزدهر الصناعة نفسها وتحفر دروبا إلى الخارج.
الكاتب السوداني غير معروف في الدول العربية، والسبب أعلاه هو الأهم. قد توجد حواجز أخرى مثل حديث بعض كبار المبدعين عن صعوبة تقبل الكاتب السوداني لدى القارئ العربي.
بالنسبة للإنترنت اعتقد أنه يسهم إلى حد ما. ربما لا يمكن الآن القطع بدور فعلي بسبب حداثة التجربة، لكن الإنترنت عموما جاذب خاصة للشباب الباحث عن الجديد. وسيتطلب الأمر مزيدا من الجهد المنظم للإفادة من فرصته.

الناقدة نجاة محمود: سينتشر الأدب السوداني بمزيد من الجهود
في رأيي أن عزلة المبدع السوداني ناجمة عن صعوبة النشر، فالدولة لا تسهم في نشر الإبداع السوداني لأنها لا ترى أنّها أولويات، ولا توجد خطة ثقافية تسهل الطباعة والنشر. ولكن الآن بعد ظهور الإنترنت أرى أن العُزلة صارت تفك قليلا قليلاً، وصار هناك عدد من الكتاب يُعرِّفون بالأدب السوداني. بمزيد من الجهود من المبدعين سينتشر الأدب السوداني.
من الأشياء التي يجب أيضا الالتفات إليها هي التوزيع. ظلَّ القارئ العربي يتلقى كل ما تنتجه القاهرة وبيروت، ولكن مُغيّب عنه الإبداع في المغرب العربي. كقارئة نهمة لم أتعرَّف على الكتاب من المغرب العربي إلا بعد ذهابي إلى الغرب. غالبية القراء من السودان يعرفون محمد ديب فقط. الآن صار هناك انفتاح على كل الكتابات بفضل الإنترنت لسهولة النشر والانتشار.

الكاتب عبد الهادي عبد الله عدلان: المبدع السّوداني كسول
المبدع السوداني كسول (عذراً) سيمّا كبار المبدعين سناً. مثلا الشاعر عالم عباس محمد نور يمتلك مشروعاً شعرياً ثرياً، إلا أننا لا نجد له حضوراً خارجياً. حتى في مصر المجاورة، غياب الإصدارات المتميزة والمستمرة كالدوحة مثلاً والتي كان يكتب فيها كثير من المبدعين السودانيين أمثال النور عثمان أبكر، ومحمد عثمان كجراي ومحمد المهدي المجذوب، والدليل على هذا أن كثيرا من الذين تناولوا الأدب السوداني كان بمحض الصُدفة، حتى أن شاعراً كبيرا مثل صلاح عبد الصبور أشار إلى أنه تعرّف على شعر التجاني يوسف بشير --على عظمة وشاعرية التجاني-- عن طريق الصدفة. ثم إن كثيراً ممن تناولوا الأدب السوداني بالدراسة مثل الشاعرة سلمى الجيوسي والكاتب عباس خضر والناقد إحسان عباس والناقد العظيم عبد المجيد عابدين كان ذلك لأنه أتيحت لهم الفرصة للتدريس في الجامعات السودانية ومعرفة هذا الأدب عن كثب.
وهناك قصور كبير من المؤسسات الثقافية والإعلامية للدولة، وعدم احتفائها بالمبدع السوداني. قليلاً استطاعت الإنترنت أن تغيِّر من هذا الواقع. ظهر هذا في مشاركة بعض الشعراء السودانيين في مشاركات خارجية، مثل الشاعر الصادق الرضي وعاطف خيري، وبعض الأعمال القصصية الروائية للكتاب الشباب. نعم أضافت هماَ جديداً استنادا إلى الكسل المشار إليه أعلاه. أضف إلى ذلك أن كثيراً من المبدعين السودانيين لا يستطيعون التعامل مع النت.

القاص خالد ربيع السيِّد: التقصير في الإنسان السوداني نفسه
بالفعل جميع العرب لا يعرفون سوى الفريد والوحيد الطيِّب صالح. المبدع السوداني منعزل، نعم. والطيب لو لم يشأ القدر سفره إلى بريطانيا وعمله في إذاعة لندن لما عُرف. المسألة أعمق يا رانيا. المسألة في الصفات الأنثروبولوجية التي تحكم هذا المبدع السوداني، وكذلك تأثير العوامل السيسيولوجية والإثنية والهوية المزعزعة.
التقصير في الإنسان السوداني نفسه وتقوقعه وخوفه من نظرة العربي وحنينه الشديد لبني جلدته. وكذلك العوامل الإرثية وحتى مسألة لون البشرة والإحساس بالخصوصية الخالصة. التقصير أيضا من هذه الحكومات التي لم تأسس لمشاركات ثقافية من السودانيين مع العرب، فنية أو ثقافية.
قبل ثلاثة أشهر كنت في تونس وبُهرت بهذا الاهتمام بتصدير ثقافتهم للخارج. يعملون عشرات المهرجانات الثقافية كل سنة في الدول العربية تحت مسمى أيام ثقافية تونسية.
أعيش في جدة تجربة غريبة. أنا الوحيد الذي يتواصل مع النادي الأدبي وجمعية الثقافة والفنون وأتيليه جدة وبيت التشكيليين وجمعية الفوتوغرافيين. وقبل ذلك عشت نفس التجربة في مصر عندما درست فيها في أوائل التسعينات، وبعدها في المدينة الكزموبوليتانية العجيبة (لندن) في منتصف التسعينات.هناك غياب تام للمبدع السوداني للأسف، وأتمنى فعلا أن يخرج المبدع السوداني من عزلته.

الشّاعر مأمون التِّلب: الإبداع الحقيقي يستطيع أن يخلق لنفسه مكاناً
أعتقد أن الإبداع والإنتاج الثقافي والإبداعي الحقيقي يستطيع أن يخلق لنفسه مكاناً، ايَّاً كان وبأي وسيلة، وربما يكون هذا التساؤل هو الأعلى منطقاً لأن الإنتاج السوداني _في أغلبه_ ينتج باللغة العربية التي تتداولها بلدانٌ ومناطق في الشرق الأوسط. وأجدني لا أميل إلى تسميات مثل (الإعلام العربي والمتلقي العربي والعالم العربي) لأن المتلقي الذي تواصلت معه بصورة شخصية كان خارج هذه التصنيفات، فكان التواصل مع كتاب يستخدمون (اللغة) العربية. كان هذا الحديث لتوضيح أن بعد المبدع عن هذا الإعلام (المُسمَّى بالعربي) ليس (البعد) الوحيد، وإنما هو غائب عن إعلام العالم وإعلامه الداخلي حتَّى. ولهذا أسباب لا تتعلَّق بالموضوع. وأقول أن المشكلة لم ولن تكون بسببٍ من (تجاهل) المُتحكمين بالإعلام العربي وأصحاب النفوذ، أبداً، لأن الإبداع الحقيقي يجذب ويُجبر صاحب الموقع، أو الناشر، أو الإعلامي على التعامل معه بجديِّة وترحاب، وليس فقط لأنه جاء من (السودان) (الهامشي) على حدِّ زعم بعضهم وبعضنا، فالسودان كما أراه الآن مركزٌ إبداعيٌّ بحاله، وهو يتعامل ويتم التعامل معه بصورة محترمة ومُقدِّرة لإبداع (مُقدَّر) بقيمته الذاتية. هل يكون هذا الحديث اتهاماً للأدب السوداني بأنه (ليس قيِّماً)؟ هنا يأتي السبب الرئيسي وهو انتظار المبدع لأن يُكْتَشَف، أو ركونه لـ(الشهرة؟) الداخلية وتوقفه عن التطور والإنتاج كنتيجة لتقييمه واكتشافه المحدود، ووضع هذا الفعل تحت ظلِّ (التواضع والبعد عن الأضواء) البارد والحميم جداً، الظل الذي يضعه في خانة: (الانزواء من الاحتكاك مع تجارب أخرى ذات صلة وقيمة). إن المخاطرة بدفعِ تجربتك إلى فضاء أوسع تكمن في تخليك عن (مركزيتك) الشخصية التي تؤثر بالطبع على تقبل وتقييم المتلقي، إذ يذهب النص بقدراته الذاتية، منفصلاً حتى عن تاريخيته وروح كاتبه، يذهب إبداعاً خالصاً دونَ صوتٍ أو دمٍ مُجرَّب.
فالطيب صالح صاحب إبداع قوي ومُقتَحِم، وانتشاره تحقق بفضل أعماله الخالصة لوجه الأدب. فلا لوم، بل حب واستمرار على التأكيد بأن الطيب صالح اجتهد وعرف إمكانيات الكاتب وواجباته تجاه القارئ، أي بذل الجهد كذلك بالتعامل المُحْكَم مع النشر، واختيار المنافذ وتحديد الخطط، مستقبلاً وراهناً.
الانترنت لن يغير شيئاً إن كان المشروع المقدَّم هش، فهو تطور طبيعي للبشرية بذل فيها من بذل من أعمار وحياة وخبرة. والآن ليست هنالك (دائرة) تسمى (الإعلام العربي) على الانترنت، اللهم إلا مجرَّد تسميات، نرى ذلك بجلاء في موقع (جهة الشعر) الذي انطلق الآن ليحتلَّ مكانة عالمية وذات صيت، وتعامل مع كبار الشعراء من جميع أنحاء الأرض. تعامل الموقع مع عدد من الأصوات الشعرية السودانية، ولكنه تعامل مع (الشعر) وليس السودان بأي حال.
بحسب تجربتي الشخصية، فقد كانت لي، ولغيري مراسلات مع مواقع أدبية كثيرة، وتم مد تلك المواقع بأسماء ومشاريع أدبية، وبما أن التواصل والجهد كان موجوداً كانت النتيجة إيجابية جداً، وأنا أثق في التجارب التي أرسلتها بالتعاون مع أصحاب هذه التجارب، (في الجمع الالكتروني). وكان لنا انجازات كثيرة في مجال المراسلة والتواصل، وأذكر بالتحديد رئيس تحرير مجلة (ألف) الالكترونية (سحبان السوَّاح) والذي كتب مقالة تحمل عنوان (هديِّة من السودان تتجاوز قرارات الأمم المتحدة) وهي موجودة بموقعه، قام بإرسال هذه الهدية الشاعر محمد الصادق الحاج، وهي عبارة عن مجموعة نصوص لأسماء كثيرة، نُشر هذا المقال بالـ(السوداني الثقافي)، ملحق جريدة السوداني الدولية، حيث أعمل مع الشاعر الصادق الرضي. وكان لهذا المقال صدى جيِّد. إذاً لم تكن المشكلة من (الإعلام العربي) وإنما من تكريس المبدع السوداني لحياته كلها للإبداع والإنتاج، واحتراف التعامل مع النشر وخططه، وبناء المؤسسات الثقافية والمبادرات والعمل الجماعي (البسيط).
عن المحور الثالث أقول: اخترق الأدب السوداني المواقع، والأسماء (وإن كان لي شك في أنها محدودة) هي التي ثابرت على النشر، وهنالك شيء آخر: بعض المواقع السودانية ذات تأثير أوسع من السودان، وأدعو إلى تطويرها وإنشاء أُخَر للمنافسة، وهي أهلٌ لذلك، وإن كنت لا أحبِّذ أن تكون سودانية فقط، فالانترنت يحمل رسالة مبطَّنة، وهي تساوي البشرية في حق التعبير، ومسح (السِحَن والأديان واللغات والانتماءات الوطنية) لصالح القوَّة الإنسانية بشتَّى تعابيرها وتمظهراتها، حواراتها البعيدة عن العنف والإقصاء.
لم تكن الإضافة بعيدة عن يد المبدع أبداً، أقصد من ناحية الإطلاع على التجارب العالمية في مجالات الأدب والإبداع. المبدع السوداني متابع ومستفيد من هذه المسيرة الهائلة والتطور الخطير في هذه الجوانب، ولكن الإضافة الحقيقية كانت في كشف الخلل الذي تعاني منه الثقافة السودانية، وهو (الشفاهية) والتي تجلَّت في منابر الحوار (عجزاً) واضحاً، أضافت التوثيق والتعامل مع النشر بأقل التكاليف، حتى النشر الورقي أصبح سهلاً داخل السودان عبر الانترنت، الحوارات مع المبدعين خارج وداخل البلاد.

الصحافي موسى حامد: الحكومات تخاف من أصوات غير صوتها المبحوح
سألتني عن أسباب غياب المبدع السوداني عن خارطة العالم العربي وبعده عن القارئ أو المتلقي العربي، ولكن في ظني أن هذا الأمر له مسبباته المتعددة، فانحسار تيارات الطباعة وتكتيم أفواه وأصوات المبدعين من قبل الأنظمة والحكومات التي لا تريد أن يُسَمع صوت غير صوتها، وهي في إطار آخر هي تخاف من أصوات غير صوتها المبحوح الأوحد. لكن في ظني أن النقطة الأولى وهي انفتاح سوق الطباعة وتطور الطباعة وتقنيتها لم تحل هذه المشكلة كثيرا وهذا راجع إلى الذهنية التي لا زالت تتحكم في أمر هذه البلاد وأمر الثقافة علي وجه أكثر خصوصية، فكل هذه الأشياء في ظني مترابطة وجزءٌ منها يؤثر في الكل، زد على ذلك فإن قبيلة المبدعين هنا مصابة بضيق ذات اليد بصورة مجملة، وقد أقعدها هذا الأمر كثيراً وشلِ الكثير من حركتها.
ثم ها أنت تسألين هل بإمكان الإنترنت أن يغير هذا الواقع؟ صحيح أن للمطبوعة نكهتها الخاصة بها وعلاقة المبدع بها التي قد تصل درجة الأبوة والبنوة، ولكن هي حيلة المضطر (إذا لم يكن إلّا الأسنة مركبا ** فما حيلة المضطر إلّا ركوبها). نعم استطاعت أن تشفي بعض الغليل، وهي استطاعت على الرغم من محدودية مرتادي الإنترنت أن توصل بعضاً من الأصوات إلى الكثير من الباحثين عما يسمى أدب سوداني.
ثم هل أضاف هذا الأمر للأدب السوداني أم انه حصر نفسه في المواقع السودانية فقط؟ دعينا ننظر إلى النصف الممتلئ من الكوب وهو أن هذه المواقع قد قدّمت شيئا يُحسب في صالح الأدب السوداني كثيرا كثيراً.

الشاعر جمال محمد إبراهيم: ثورة المعلوماتية أضافت واقعاً جديداً
عن عزلة الإبداع السوداني تسألين. في السابق كنا نتذرع بكلفة النشر العالية، وضعف دعم الدولة للإبداع. تلك أيام عشنا رهقها طويلا، وقد يكون هناك كثير من الحقيقة في هذه المزاعم. فيما كانت الأوضاع في سنوات القرن العشرين، الذي في نصفه الأول رزح السودان تحت نير الاستعمار، ثم في نصفه الثاني وقد ملكنا أمرنا ولكن ضاعت الحكومات في أتون الحروب والاقتتال، فلم يجد الإبداع من يلتفت لدعمه إلا القليل.
ربما لو أحصينا المنشور والمطبوع في الفترة التي وضعت الحرب أوزارها بين 1972و 1983، لن نُدهش طويلا، إن وجدنا للنشر من اهتم به والإبداع من يسرّ دروبه، على المستوى الرسمي والمستوى الآخر. ونجح بعض من أفلت من هذا الحصار، فطبع ونشر في بيروت. ساعد الراحل إحسان عباس غير قليل من مبدعينا في نشر إنتاجهم في بيروت بوساطة ومساعدة منه.
ديوان غابة الأبنوس للشاعر الراحل صلاح أحمد إبراهيم مثل واحد. مجلة الحياة التي أصدرها الراحل حسن نجيلة في الستينات مثال آخر. المؤسسات الرسمية لم تكن هنا ولم تساعد بشيء. حركة النشر والطباعة وجدت دعما في سنوات السبعينيات، فترة حكم نميري. في الفترة التي أشير إليها، كان رجال مثل عمر حاج موسى وإبراهيم الصلحي وأحمد صغيرون ومحمد عبد الحي، ولفيف ممن لا تحضرني أسماؤهم، قيمين على أمر الثقافة والفنون. النشر كان هما من هموم هؤلاء أيضا.
لو جئنا للقرن الحالي، نحن أمام معطيات جديدة. تتراجع أهمية دور المؤسسات الرسمية أمام مؤسسات المجتمع المدني بصورة عامة. كبر دور القطاع الخاص، واتسعت مساحات المبادرات المستقلة عن الحكومة ومؤسساتها. ألا ترين دار عزة للنشر، ودار النشر الأكاديمي كمثلين؟ من ناحية ثانية ثورة المعلوماتية أضافت واقعا جديدا. نحن أمام معضلة جديدة: النشر الصلب مقابل النشر الناعم. ثورة المعلوماتية انداحت عبر الإنترنت كما وسع أثرها عبر الفضائيات.
لا حجة لمبدع كسول لأن يتذرع بضعف الدعم الرسمي، أو ارتفاع كلفة الطباعة والنشر. لا حجة لمبدع إن لم يبادر ويخرج للمنتديات الإبداعية، وفي ذهني مهرجانات الشعر والقصة والمسرح والتشكيل. عادت للمبدعين ميزة المبادرة والاقتحام. لن يعفينا أحد إن لم نتفاعل مع الحراك الثقافي العام الذي ينتظم العالم وفق المعطيات الجديدة.
قرأت مؤخرا رواية الكترونية لكاتب أردني (*) كتبت بكاملها على الإنترنت، أي هي نص ناعم ولا مجال حتى لإخراجها في شكل صلب، إذ أنك ترى بعينيك تقرأ وتسمع أشخاص الرواية يتكلمون أو تشاركهم سماع أغنية أو موسيقى. كل ذلك بكلفة زهيدة. نحن من يلوم نفسه إن تقاعسنا ولم نطور أساليبنا في نشر إبداعنا. مهاجمة العولمة والنشر الالكتروني يدفع بنا إلى التقوقع والانزواء والضمور. تُرى هل سنقبل التحدي؟
  ــــــــــــــــــــــــــ
(*) رواية بعنوان شات لمحمد سناجلة.
*نُشر هذا التحقيق في مجلة عود الند الإلكترونية وصحيفة رأي الشعب، 5 مايو 2007.

http://www.oudnad.net/12/sud12_1rania.php

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق