الجمعة، 28 ديسمبر 2012

حوار مع الأديب السعودي عبده خال

عبده خال اسم يغلق أمامك منافذ تجاوزه في الأدب السعودي، السردي منه خاصة، وهو عِوضاً عن طاقاته الحكائية العالية، وقصصه، وأساطيره الجاثمة بين جمله وفواصله؛ متحدث لبق يجذبك حسن حديثه وإجاباته المنفتحة والمتفتحة.
فمن باكورة إصدارته (حوار على بوابة الأرض) “مجموعة قصص “، (حكايات المداد) “قصص أطفال” مروراً بالتوحّد في (لا أحد) “مجموعة قصص”،  (ليس هناك ما يبهج) “مجموعة قصص”، (الموت يمر من هنا) “رواية” وغربة يحي الغريب في (مدن تأكل العشب) “رواية” و(من يغني في هذا الليل) “مجموعة قصص” و(الأوغاد يضحكون) “مجموعة قصص” و( الطين) (ذلك البعيد كان أنا) “رواية” وبالطبع ليس انتهاءً بـ (نباح) “رواية”
يشغل مدير تحرير لجريدة (عكاظ) السعودية.
* من مدَّ لك خيط الحكايا، ومتى أغواك بنسجه؛ لتبدأ مشوارك السردي المتواصل حتى الآن؟
حين نتعلم نفقد براءتنا، نفقد الخيال، كنت طالباً يقترب من الهروب مما يحشا به الرأس وفي كل مرة أجد نفسي منقاداً لاتباع طرق التقنين، في طفولتي الأولى لم أنقاد لهذا المحو والإحلال ومع مواصلة القرع كان لا بُدّ للمسمار أن ينغرس في الخشبة وكلما أوغلت في الانغراس اكتشفت أن بين الطرق ولحظة الاستعداد له فضاء يستحق الهروب إليه، من تلك الفرجة تسللت إلى العودة إلى عالم بلا حدود، عالم أن تكون فيه ملكاً وزبالاً في آن، إنه الهروب الدائم، الهروب من رأس المطرقة والإيغال في لحم الخشب!
* في إجابة لك قلت:
(حين تكون تائهاً تظن أن كل الجهات طريقك) عرفتُ أنك بدأت بكتابة الشعر، ثم كتبت بعده القصة والرواية

سؤالي هو: في بدايات الأديب وقبل أن تتشكل تجربته الإبداعية، هل يمكن أن نصفه بهذه الجملة التي استعرتها منك، وهل يمكن القول إنّها انطبقت عليك في بداياتك عندما قرضتَ الشعر، أم أن الشعر دائماً يكون هو أول كائن يخرج من أحشاء الكاتب باعتبار أنه أقدم الأجناس الأدبية؟ وبعد كل هذي الأعوام، والتجربة الروائية والقصصية الكبيرة هل تحنّ إلى الشعر؟
كانت بدايتي خواطر كنت أسعى لحشرها تحت جناح الشعر إلا أنّ هذه الخواطر وئدت قبل أن أمضي بها بعيداً، أوافقك بان معظم التجارب الكتابية تدخل من بوابة الشعر لكونه المخزون الثقافي العربي والأداة التعبيرية المعتبرة لدى المجتمع والمثقفين ولكي تنضم إلى قافلة الأدباء كان عليك أن تكون شاعرا.
وإن كان هناك حنين فهو حنين للحظة النشوة التي كانت تغمرني في ذلك الزمن.
* تقول الناقدة اللبنانية د. يمنى العيد: إنها تفضل الأدب الذي يتحدث عن القضايا الكبرى، وهناك من يرى بضرورة الفن لذاته، وليس لما يدّلل عليه أو يوحي به.. ما هي قناعاتك في هذا، وإلى أي مدى طبقتها في نصوصك؟
الحزن الكبير كالحزن الهين، إن المشاعر الإنسانية المؤلمة تكوي أصحابها مهما صغرت.
وأنا أقتفي أثر هذه النفس، أتتبع نشيج تلك الأرواح التي تقبع في الهامش، أبحث في جراحها عن آهة صغيرة..
هل تعلمين – يا سيدتي – أن الآهات الصغيرة جاءت من مجرى سيل ضخم يسمى السياسة أو من فوهة بركان يسمى القضايا الكبرى.. إن الأشياء الصغيرة تتفرع من الكوارث الكبيرة حتى تصل إلينا كنتف صغيرة ربما لا يتنبه لها المهمشون، إنها قطرة دم تمَّ إيصالها إلى مخادعهم بطريقة سرية أو بطريقة علنية لتعلن لهم أن لا أحد يبتعد من نيران الكبار.
* في مجموعتك القصصية(لا أحد) لمحتُ رابطاً متوارياً بين كل قصص المجموعة هو الوحدة، أو بتعبير أكثر دقة الغربة النفسية، بل حتى العنوان يشي بهذا. هل ثمّة قصديّة في اختيار هذه النصوص خاصة وأنها كُتبت في أزمان مختلفة؟ وسؤال أكثر اتّساعاً: ألا ترى أن هذا الشعور أصبح شعوراً عاماُ ومشتركاً في ظل الواقع المعاش في الوطن العربي؟
الغربة هي مصيرنا الحتمي، سنجد أنفسنا غرباء داخل أوطاننا وداخل أنفسنا، فحين خرجنا لهذا الكون كنا قبله نقتعد أرحام أمهاتنا بمفردنا وحين دخلنا إلى الحياة ربما توهمنا أننا نعيش في جماعة مما حمل مفكرين – كجان روسو – يتوهمون بأننا كائنات اجتماعية ولا بُدّ من ربطنا بعقد اجتماعي. هذه الصورة المتوهمة أوجدها المفكرون والفلاسفة لتسير الحياة وليس لتسير الفرد، الفرد كائن غريب فلو استطاع أن يتخلص من المجموع لعاش سعيدا. في وحدته يستطيع أن يتخلص من جحيم الآخر ولكنه لا يستطيع أن يكون منفردا كحياة تحتم عليه الاحتياج للآخر، في تسير الحياة توهمنا جميعا بأننا كائنات اجتماعية.. نحن كائنات فردية خلقنا الله بخاصية أن نعيش فرادى، لكن التعليم الذي أسس في داخلنا بأننا نتبادل المنافع جعل حياتنا جحيماً حينما نستشعر فرديتنا. جعلنا نشعر بفداحة أن تكون وحيدا، ولهذا نجلس للبكاء لهذه الوحدة، وحدة الذات ووحدة الوجود.
قلت إننا نأتي وحيدون ونغادر وحيدون.. الأصل أن تكون وحيداً.
* لمستُ حضور الموت في كتاباتك وبعض قصصك القصيرة، ما سر حضور الموت في نصوصك؟ أهو ذات الموت أم يتغير معناه وفهمه وفكرته من نص إلى آخر؟ وأسمح لي أن أسأل أيضاً عن الموت بالنسبة لك خارج النص؟
الموت تيمة أخرى، تيمة تضع لك نهاية، وأنت ككائن تظن أن كل هذا الزخم من الأنشطة التي تقوم بها على وجه الحياة هي أنشطة باقية وتربط بقاءها بوجودك، بينما الواقع المعاش يشي بأنك بنَّاء تقيم حجراً وترحل ويأتي آخر ليتم بناءك ويتخيل نفس تخيلك، وبين الرحيل الدائم تتولد حكايات وتصورات لما بقي ولما رحل. الموت ليس لحظة فصل بل هو تواصل حياتي أخر غير مرئي، الموت هو أصل الأشياء وليست الحياة وكما نهتم باللحظة القصيرة – التي تسمى حياة – علينا أن نهتم بالأصل وهو الموت، أن نقرأ هذه الحياة الدائمة التي بدأت قبل الميلاد ولا تنتهي بردم التراب على قاماتنا التي استرخت في لحدها.
الموت عندي ليس العملية الكيميائية التي تنتهي بتدهور الخلايا وضمورها وردم صاحبها، الموت هو حياة دائمة لم نتنبه لها جيداً. ربما هذه الفكرة كانت محورا لرواية (الطِّين) تجاذبتها فكرة السرعة التي نتواجد بها على مدار الزمن ونكون في كل نقطة كائنات تعيش للأبد.
* نرى سطوة المكان على العديد من الأدباء، إلى أيّ مدى أثّرت عليك البيئة ؟ وإلى أيّ مدى هي ملموسة في كتاباتك، وهل كانت (بطلة) لذاتها في أي عمل لك؟
للمكان سطوة وجبروت توازي سطوة وجبروت الشخصيات التي تلاعبها، فالمكان شخصية حية تشكل البناء وتقر الأسلوب الذي تكتب به وتغير المعمار البنائي للنّص.. كل هذا يحدثه المكان ربما بعض الكتاب يدرك ذلك وهناك من لا يدرك هذه السطوة.
وفي كل كتابة أكتبها أجد أن للمكان حضوره على كل تفاصيل السرد.
* قصتك القصيرة ” البلوزة” أيمكن أن نعتبرها نوعا ما اختراقاً لسائد في الأدب السعودي، وما مدى تقبل القارئ الذي يقرأ النصوص بأحادية أو من منطلق الحلال والحرام؟
لا أهتم كثيرا بالاختراقات، والذي يعنيني كيف أستطيع أن أقتنص اللحظات التي تهرب من الإنسان ولا يستطيع تداركها إلا من خلال الفن.
أذكر أنني كتبت نصا سابقا – في البدايات – بعنوان (شيء خارج الذاكرة) جعلني أطوف في استجوابات مملة لمدة سنة ونصف، لم يكن النّص خارقاً بل كان يقف على اللحظة الهاربة من تناقضات الإنسان أو حين ينحرف عن طبيعته بفعل التراكمات الظنية مما ينتج سوء ظن يغلف حياة الإنسان. من ذلك النّص اكتشفت أن الفن قادر على اصطياد اللحظات التي تهرب منا ولا نستطيع تداركها، ومنذ زمن بعيد وأنا أجلس أمام كل شخص علّني أستطيع اقتناص لحظة هاربة منه، علّني أستطيع البوح حتى ولو صاح الديك معلناً انتهاء زمن البوح.
* إلى ماذا يمكننا أن نعزي عدم فصل الكاتب عن أبطال نصوصه، وأنه هو بالضرورة نفس البطل في الرواية الكذا مثلاً.. أيمكن أن نرد هذا إلى وعي القارئ مثلاً، أو ثقافته، أو حتى الزاوية التي ينظر من خلالها للأدب؟
الثقافة العربية لا تستخدم ضمير المتكلم إلا للدلالة على الفخامة والتبجيل والمقدرة على فعل ما لا يمكن فعله، ولم يستخدم هذا الضمير – في ثقافتنا – للاعتراف بالأخطاء، فقد ظل ضميراً طارداً لكل الشبه، ولم يستخدم للبوح إلا في الأغراض التي تعلي من قيمة المتحدث فغدا ضميراً ملوثاً في ذهنية أولئك الذين ملوا التطبيل، وحين استخدم في الفن الروائي على سبيل المثال لم ينفصل عن مرجعيته وظل ضميراً مقترناً في ذهنية المتلقي بأن صاحبه صادقاً فيما يقوله وأنه يتحدث عن ذاته، لم يحدث لدى المتلقي فصل بين استخدام هذا الضمير فنياً وبين مرجعيته الأساسية ولذلك تم لصق كل نقائص الشخصيات الروائية المتحدثة لصاحب العمل الروائي.
لم نستطع إلى الآن قراءة رسالة الفن بل نجهد أنفسنا لقراءة فضائحية السارد على أنه يمثل ذاته ولا يقدِّم لنا رؤية لحالات إنسانية متواجدة بيننا وربما تكون تلك الشخصية هي شخصية القارئ للعمل.
* نلاحظ مؤخراً ازدياد في المنجز الروائي السعودي، هل يُبشر هذا بأن تنحى السعودية منحى التعبير من خلال الرواية؟
الإنسان في أي بقعة من الأرض لن يعجز عن التعبير عن ذاته، فأدوات التعبير متعددة بتعدد نوعية أولئك البشر، فحين تغيب الأدوات الجماهيرية يخترع الإنسان أدوات ذاتية للتعبير عن حالة أو ما يضايقه أو ما يفرحه؛ فالمرأة تستطيع أن تعبر عن ما يشغلها من خلال التطريزات أو المشغولات اليدوية أو من خلال تزيين منزلها أو من خلال أهازيج الأفراح أو من خلال رقصة لها عمقها الدلالي.
وازدهار الرواية الآن في السعودية هو نوع من التعبير الذي توافرت ظروف معينة – قد يكون أهمها الوهج الإعلامي – مكَّن الكثيرين من استخدام هذه الأداة للتعبير.
الإنسان لا يستطيع أن يعيش من غير أن يعبِّر عن ذاته.
*إلى ماذا يعزى التفاتها الذي يمكن أن نقول عنه متأخراً عن دول عربية أخرى إلى هذا الفن، وكيف تقيّمه من حيث الكيف باعتبارك مطلّع ومشارك في الحركة الروائية السعودية؟
لم تكن كتابة الرواية السعودية متأخرة – ككتابة – عن بقية العالم العربي، فقد كتبت أول رواية سعودية في عام 1339 للهجرة لكن تلك الكتابات ظلت حبيسة الوعظ والإرشاد ولم تستطع أن تخرج على ظرفها وبالتالي لم يعتد بها فنياً، وحين توافرت ظروف خلقها الكتاب أنفسهم استطاعوا كتابة رواية متميزة. هذه هي الحكاية.
* كيف قرأت أو وجدت رواية “سقف الكفاية” للروائي الشاب “محمد حسن علوان” من ناحية فنية، خاصة وأن الآراء اختلفت عليها؟
“محمد حسن علوان” موهبة روائية قادمة، فروايته الأولى أحدثت جدلاً بين القبول والرفض وهذه ميزة الأعمال الجيدة وأتصور أنه قادر على الاستفادة مما قيل حول تجربته.
* النوادي الأدبية المنتشرة في مدن المملكة المختلفة، هل أحدثت تغييراً في المشهد الأدبي السعودي؟ هل أضافت إلى حركته الكثير، وكيف يمكن مقارنتها بالروابط أو الجمعيات أو النوادي الأدبية في الدول الأخرى، وكم عددها الآن؟
توجد أربعة عشر نادياً منتشرة في المدن الرئيسية، وتتفاوت فعالياتها وأثرها وفقاً لتوجه رئيس كل نادي، وفي تصوري أن أكثرها ظلَّ مرتبطا بالثقافة الإدارية بمعنى أنها تقدم ثقافة تثبت للمسؤولين أنها تعمل بينما لا يخرج عملها عن إثبات حضور إداري.
وهناك أندية قدمت الثقافة السعودية المتميزة من خلال الأصوات الفاعلة مثل نادي جدة الأدبي على سبيل المثال.
* نحن أمة بدأ كتابها بـ اقرأ. برأيك هل الإنسان العربي قارئ كمثيله الأوربي مثلاُ الذي يقرأ حتى في القطار أو الطائرة، وهل ما زال ارثنا الشفاهي مؤثر وطاغي على غيره من وسائل المعرفة؟
حين جاء ديننا الإسلامي حاثا على القراءة من خلال كلمة (اقرأ) كان المنتمين إليه أمة ذات ثقافة شفاهية ولم تستوعب ذلك الحث وسرعان ما عادت إلى حضن الثقافة السمعية وبالتالي تم تعطيل أمر رباني كان هو المخرج لهذه الأمة كي تقدم جوهر الإنسان المتمثل في العقل.
وفيما بعد تنبه الساسة وصانعوها أن القراءة تعني المعرفة والمعرفة تعني معرفة الحقوق والواجبات وهذا يفسد على الحكام بسط عظمتهم كما يشتهون فشجعوا غياب العقل بتزويده بما لذ وطاب من القول الشفهي بلغ درجة التقديس لمقولات ليست من التدين في شيء ولو أن الأمة منذ البدء قرأت لما وصلنا كل هذا الكم من المتلابسات ومن الأحكام التي فرزتها التقاليد.
*آلمتني قصة ” الأوراق” وأعجبتني قصة ” محاولة لإشعال سيرة منطفئة” ما الذي يسعى إليه الأديب عند كتابته للنص؟ ومال الذي يسعى إليه (عبده خال) من وراء كتابته لنص معين؟
قلت لكِ، أجلس خلف الأشياء أبحثُ عن اللحظة التي تهرب من إنسان ما ولا يستطيع تداركها إلا بالفن. في حياتنا آلام كبيرة مهمتها تحليل أرواحنا قبل أجسادنا وحين تمسك بها تجدها قد نخرت أناساً كثر، فتقدمها كلحظة مجرمة نفذت من القصاص بسبب تراكمات من الفساد والتغافل.
*روايتك الأخيرة “نباح” أي حكاية بين دفتيها، وما الذي أردت أن تقوله من خلالها؟
نباح هو صوت الكلب وصوت الأسد وصوت الإنسان وصوت الحية هكذا تقول لغتك العربية،
ونباح صوت كل هذه الكائنات حين تدهسها أقدام الساسة وهي تحذرها من مغبة أن تتألم، كائنات حية وميتة عبرتها رائحة الحرب وسحقتها مجنزرات لم تكن رحيمة على الأرض التي عبرتها، فمن يجرؤ على الابتسام علانية في حضرة الحذاء الساحق؟!
* أنت الروائي العربي، هل تقرأ روايات عربية؟ وإن كان فلمن؟
كل روائي يعجن ويخبز خبزاً طازجاً يقدمه للآخر، وقد امتدت يدي لكثير من هذه الأقراص.
أقرأ لكثيرين، وأتوق لأن أصافح كل من قرأت لهم، ولو أردت الأسماء فهي قائمة طويلة.. طويلة جدا.
ــــــــــــــــــــ
·       نُشر هذا الحوار بالملف الثقافي لصحيفة الأضواء السودانية - الاثنين 17 مايو 2004م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق