الأحد، 21 يوليو 2013

ودمدني في رمضان .. مجد العزّاب وعابري السبيل

رانيا مأمون

لا يمكن للسائر في أحياء مدينة ودمدني إغفال تلك الرائحة المؤكِّدة على نفسها، التي تسطو على حياد الهواء، فيميل نحوها ويتبنى فرحها في الإعلان عن ذاتها. إنها رائحة إعداد (عُوَاسَة) الحلو مُرّ أو (الآبْرِي)، الذي يجمع في طعمه ما بين الحلو والمر (الحامض)، ذلك المشروب السوداني الخالص يُعد من الذرة والكثير من التوابل بطريقة خاصة، والذي يكرِّم به السودانيون شهر رمضان، يُعد خصيصاً له، وأول مُعلِن عن اقتراب الشهر الفضيل، رائحته تصحب معها ذكرى رمضان وأجوائه فتذكِّر النَّاسي وتدير دفة انتباه الغافل إلى أنَّ رمضان على الأبواب.
كان هذا الطقس مناسبة اجتماعية وتكافلية جميلة جداً، تجتمع نسوة الحي عند بيت فلانة لأن اليوم (عُوَاسَتها) يعددن معها (الحلو مر)، يتسامرن ويشربن منه بعد الانتهاء. وبعد أيام يجتمعن عند بيت أخرى لإعداد (الآبْرِي) خاصتها، وهكذا إلى أن تنتهي كل النسوة في كل بيوت الحي من إعداده.
في السنوات الأخيرة تقلّصت هذه العادة ربما بفعل الاتجاه المادي للحياة وسرعة إيقاعها، خاصة في الأحياء الغنية. أصبحت بعض الأُسر تستأجر نساء من شرائح فقيرة لإعداده نظير مبلغ مالي. والبعض يشتريه من الأسواق مفوِّتاً على نفسه جمالية هذا الطقس!
تكتسي مدينة ودمدني التي نشأت في 1489 بالأضواء في رمضان، تضاء المساجد وتُزَيَّن، تنار الشوارع بنسبة أكبر من بقية العام، تكثر حركة المدينة ليلاً، تمتلئ الساحات والمقاهي وشارع النيل بالناس تجولاً وتواصلاً مع الأهل والأصحاب، وتستمر الحركة حتى الثالثة صباحاً.
نهاراً، تكون حركة المدينة أبطأ قليلاً عن بقية أيام السنة، رغم أن الموظفين يتوجهون لمكاتبهم، وإن كانت الإنتاجية ليست كباقي الشهور. المدارس تواصل دراستها وتغلق في الجزء الأخير من الشهر فقط، الأسواق عامرة بالمشترين وحركة المواصلات دائبة، تكثر داخلها الشجارات والمناوشات خاصة بعد الظهيرة عند اشتداد الحر وتعكّر المزاج. قلَّما يمر يوم لا ينشب فيه شجار داخل حافلة، فتلهج بعض الألسنة بـ: اللهم إني صائم؛ لتفرِيغ طاقة الغضب وتذكير النفس والآخر بالصيام.
في رمضان وقبله بقليل ترتفع أسعار السلع الحيوية، كالسُّكر واللحوم ومنتجاتها وبعض الخضروات وغيرها، ويعمد بعض التجار لاحتكار سلعة معينة خاصة السكر لأن الطلب عليه يكون كبيراً، ويتم استغلال المواطن المطحون الذي لم يعد قادراً على تلبية احتياجاته الأساسية.
لقد أثَّر الوضع الاقتصادي الذي قُصِم ظهره بانفصال الجنوب 2011، على المواطن السوداني واستعداده لرمضان، وعلى مائدته الرمضانية التي صغر حجمها وقلَّ تنوعها، وباتت تحوي أقل القليل. وهو محشور بين مطرقة الحكومة وسندان التجار وغلاء الأسعار.
للحكومة شواغل كثيرة غير المواطن، تبدأ بالآداب والمظاهر العامة ولا تنتهي بالحروب، منذ مجيئها 1989 تُغلق بأمرٍ رسمي في نهار رمضان المطاعم والكفتيريات حفاظاً على المظهر العام الرمضاني، رغم أن هناك شرائح مرخَّص لها بالإفطار! لكن حِيَل المطاعم والمحلات لا تنتهي، يضع بعضها ستائر من البلاستيك ونحوه كحاجز بينها وبين المارة الصائمين المتيقنين أساساً، وكأن رؤيتهم لمفطر ستجرح مشاعرهم وتستفزّهم للإفطار كذلك!
تعمر المساجد في رمضان، وتتردد داخلها أصوات تلاوة القرآن، تقام حلقات الذكر وختم القرآن، هناك من يختم القرآن مرة واحدة، ومن يختمه ثلاث مرات خلال الشهر، تمتلئ المساجد وساحاتها الخارجية بالمصلين والمصليات لصلاة التراويح. وفي الأيام العشرة الأخيرة يعتكف البعض في المساجد رجالاً ونساء يقومون الثلث الأخير من الليل حتى حلول الفجر.
وقت السحور يجتمع شباب الأحياء المتجاورة، ويتطوعون لإيقاظ النائمين لتناول السحور، يدقّون على أوانٍ وجرادل وصفائح وما يتوافر، يستخدموها كدفوف، يتجولون في الأحياء، وهم ينشدون: (يا صايم قوم إتسحَّر)، وينادون بأسماء الناس. إمام الجامع قربنا كان يقوم بهذه المهمة أيضاً، فيقول بإيقاع منتظم وصوتٍ حانٍ حنوّ اللَّيل: تسحَّروا.. تسحَّروا فإن في السحور بركة. تسحَّروا.. تسحَّروا يرحمكم الله.
أما النشاط الثقافي في رمضان، فإنه يتراجع أمام النشاط والتواصل الاجتماعيين، وتقتصر المناسبات الثقافية في بعض الأندية في الأحياء، التي تقيم نشاطات صغيرة ثقافية ورياضية متفرقة خلال الشهر. قبل عدة سنوات أقيمت بعض الخيم الرمضانية في شارع النيل، وحَوَت العديد من الأنشطة الفنية والثقافية، ولكن تمَّ منعها بعد سنتين أو ثلاث من إقامتها؛ لأن الأصل في رمضان هو شهر عبادة وليس ترفيهاً حسب التبرير الرسمي.
ودمدني وسائر مدن السودان تتميز بعادة لا يوجد لها نظير في العالم الإسلامي، وهي عادة الإفطار في الشوارع، تُفرش البُسط على الأرض في الشوارع قرب البيوت، ويُحضِر كل سكان الحي بألوان طيفهم العِرقي والمجتمعي من الرجال والشباب والصبية صوانيهم ويجتمعون لـ (شراب الموْيَات) كما يسمونها، و(المويات) جمع (موْيَة) وهو ما يطلقه السودانيون على الماء، سُمِّيَّ وقت الإفطار بهذا المسمى في رأيي نسبةً للطقس الحار جداً حيث يطغى الشعور بالعطشِ على الجوع.
رغم الحالة الاقتصادية الصعبة، عادة الإفطار في الشوارع لم تتوقف منذ مئات السنين. وليس من المحمود عدم الخروج. تحوي العادة قيماً كثيرة، فكل عابر سبيل يُدعى لتناول الإفطار، ويلِّبي الدعوة دون حرج، يدعى كل عازب يقطن في الحيّ، يتشارك الفقير والغني في هذا الإفطار، وتتنوع المأكولات بين البسيط والفاخر على تلك البُسط، يأكل الجميع من طعام بعضهم بسماحةٍ ومودة.
تقام في بعض الدول موائد الرحمن، هنا أيضاً تقام موائد مماثلة، لكن الاختلاف بين عادة الإفطار الخارجي وموائد الرحمن، أن الأخيرة تقام بشكل رسمي ترعاها الدولة والخيِّرين، في حين الأولى هي مبادرة من أهالي الأحياء يتشاركون فيها طعامهم وقهوتهم، ويصلَّون المغرب في جماعة. ليس هذا فقط، بل هناك قرى في طريق مدني الخرطوم تقطع الطريق على البصَّات السفرية وقت الإفطار، وتجبر كل الركاب على النزول لتناول إفطار رمضان، كسباً للأجر وكرماً وإكراماً لعابري الطريق أيّاً كانت ديانتهم.
لرمضان في مدني إحساس مختلف، ونكهة خاصة كخصوصية عصير (التبلدي) والحلو مر، المشروب البديع الذي تفوَّق على غيره بجمعه الضدَّين .

مجلة الدوحة يوليو 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق